ما سبق كان من التاريخ السياسي والعسكري لعبد الرحمن الناصر-رحمه الله، وواقع الأمر أن جهده لم يكن كلُّه موجهًا للجيوش والحروب فقط.
بل إنه كان متكاملًا ومتوازنًا-رحمه الله- في كل أموره؛ فقد قامت في عهده نهضة حضارية كبرى هي الأروع بين مثيلاتها في ذلك الوقت.
استهلَّها –رحمه الله- بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأَكْثَرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولًا.
ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالًا كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره.
الجانب المعماري:
مدينة الزهراء:
مدينة الزهراء كان من أهم ما يُمَيِّز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء.
وكانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًّا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- موادًّا من القسطنطينية وبغداد وتونس ومن أوربا.
وقد صُمِّمت على درجات مختلفة؛ فكانت هناك درجة سفلى؛ وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير[1].
وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء؛ ذلك القصر الذي لم يُبْنَ مثله حتى ذلك الوقت؛ فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوربا.
ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء، يقول المقري في نفح الطيب: «لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أطبق الناس على أنه لم يُبن مثله في الإسلام ألبتة.
وما دخل إليها قطُّ أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة؛ من ملك وارد أو رسول وافد، وتاجر جهبذ-وفي هذه الطبقات من الناس تكون المعرفة والفطنة- إلاَّ وكلهم قَطَعَ أنه لم يَرَ له شبهًا.
بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله؛ حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدًّا، والأدلة عليه تكثر.
ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة، وعجيب ما تضمَّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف، وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون، وذهب موضون.
وعمد كأنما أُفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص، لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف!» [2].
مدينة قرطبة:
مدينة قرطبة وهذه مدينة قُرْطُبَة قد اتسعت جدًّا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم[3].
وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين[4].
يصف ابن عذاري قُرْطُبَة في هذه الفترة فيقول: «ومما قيل في آثار مدينة قُرْطُبَة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية-رحمهم الله تعالى-:
إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصر الزهراء أربعمائة دار؛ وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته...»[5].
وينقل المقري عن ابن حيان قوله: «إن عدة المساجد عند تناهيها في مدَّة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام.
وفي بعض التواريخ القديمة كان بقُرْطُبَة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدًا؛ منها: بشقندة ثمانية عشر مسجدًا، وتسعمائة حمام، وأحد عشر حمامًا، ومائة ألف دار، وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصًا، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها... إلخ»[6].
وهذا-أيضًا- مسجد قُرْطُبَة قد وسَّعه حتى أصبح آية من آيات الفن المعماري، وكان محرابه عبارة عن قطعة رخام واحدة على شكل محارةٍ[7].
لكل هذا وغيره من مظاهر الحضارة أُطلِقَ على قُرْطُبَة في ذلك العصر «جوهرة العالم»[8].
الجانب الاقتصادي:
كانت البلاد في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- تعيش في رخاء منقطع النظير، فكثرت الأموال؛ حتى بلغت ميزانية الدولة ستة ملايين دينارٍ ذهبيٍّ.
كان يقسمها ثلاثة أقسام كجدِّه عبد الرحمن الداخل-رحمه الله: ثلثًا للجيش، وثلثًا للبناء والمعمار والمرتبات وما إلى ذلك، والثلث الأخير للادِّخار لنوائب الزمن[9].
ونمت الزراعة نموًّا مزدهرًا؛ فتنوَّعت أشجار الفواكه والمزروعات من قصب السكر والأرز والزيتون والكتان، وأوجد مزارع خاصة لتربية دودة القز.
كما نَظَّم أقنية الري وأساليب جرِّ المياه، وجعل تقويمًا للزراعة لكل موسم (ومنها انتقلت الزراعة إلى أوربا)[10].
كان من اهتماماته-أيضًا- استخراج الذهب والفضة والنحاس، وكذلك صناعة الجلود وصناعة السفن وآلات الحرث.
وكذلك صناعة الأدوية، وقام عبد الرحمن الناصر بإنشاء أسواق كثيرة متخصصة لعرض وتداول مثل هذه البضائع، فكان هناك-على سبيل المثال- سوق للنحاسين، وأخرى للحوم، بل كان هناك-أيضًا- سوق للزهور[11].
الجانب الأمني:
وكانت خُطَّة الشرطة من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة (317هـ) في عهد الناصر لدين الله قُسِّمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب:
الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، كما قَسَّم خطة المظالم (أي المحاكم) إلى خطتين عام (325هـ)، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم، وجعل العرض خطة مستقلَّة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة[12].
الجانب العلمي:
ازدهر في عهد عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- العلم والتعليم بصورة ملحوظة، وقد اهتمَّ كثيرًا بمكتبة قُرْطُبَة؛ تلك التي كانت قد تأسَّست قبل ذلك الوقت، فزاد كثيرًا في حجمها حتى بلغ عدد الكتب فيها أربعمائة ألف كتاب، وهو زمن لم تظهر فيه الطباعة بعدُ.
وإنما كانت عن طريق النسخ اليدوي، الذي كان وظيفة النسَّاخين، فإذا أراد واحد من الناس أن يمتلك كتابًا ما عليه إلا أن يذهب إلى نَسَّاخ؛ فيذهب النساخ بدوره إلى مكتبة قُرْطُبَة فينسخ له ما يُريد[13].
وبأثر من هذا الجوِّ العلمي الزاهر، أوردت المصادر التاريخية وكتب التراجم والطبقات عددًا كبيرًا من الأسماء التي نبغت في هذه الفترة؛ فمنهم:
حسان بن عبد الله بن حسان (278-334هـ=891-946م):
من أهْل إسْتِجَة، وقد وُصف بأنه كان نَبيلًا في الفقه، وحافِظًا للرأي، ومُعْتنيًا بالحديث والآثار، ومتصرِّفًا في علم اللغة والإعراب، والعَروض ومَعَاني الشِّعر، مع بصره بالفرض وعِلم العَدد، ولمكانته العلمية قيل عنه: لم يَكُن في إسْتِجَة قبْله ولا بعده مِثله[14].
محمد بن عبد الله الليثي (ت339هـ= 951م):
من أهل قُرْطُبَة، وكان يشغل منصب «قاضي الجماعة» في قُرْطُبَة، تتلمذ على شيوخ بالأندلس، ثم رحل إلى مكة، ثم إلى مصر، ثم إلى تونس، وكان حافظًا للرأي، مُعْتَنِيًا بالآثار، جامعًا للسنن، متصرفًا في علم الإعراب، ومعاني الشعر، وكان شَاعِرًا مطبوعًا.
وقد ولاه عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- قضاء إِلْبِيرة وبَجَّانة، ثم قضاء الجماعة بقُرْطُبَة في شهر ذي الحجة سنة (326هـ)، وكان كثيرًا ما يخرج إلى الثُّغور، ويتصرَّف في إصلاح مَا ضعف فيها، فاعتلَّ في آخر خرجاته إلى هُناك، ومات في حصن مجاور لطُلَيْطِلَة فدُفن فيها[15].
السياسة الخارجية:
ذاع صيت عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- في الدنيا كلها، ورضيت منه ممالك الشمال بأن تعطيه العهد والجزية، وقد جاءت السفارات من كل أوربا تطلب ودَّه.
فجاءت من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، بل جاءت من أقصى شرق أوربا [16] من بيزنطة، وهي بعيدة جدًّا عن عبد الرحمن الناصر لكنها جاءت تطلب ودَّه وتُهدي إليه الهدايا.؟
وأشهرها كان جوهرة ثمينة وكبيرة، كان يضعها عبد الرحمن الناصر في وسط قصره، الذي يقع في مدينة الزهراء، «وكانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية»[17].
وهكذا كان عزُّ الإسلام ومجده متمثلًا في عهد عبد الرحمن الناصر-رحمه الله، حتى أصبح-بلا منازع- أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى، وهذا ما جعل إسبانيا سنة (1963م) تحتفل-وهي على نصرانيتها- بمرور ألف سنة ميلادية على وفاة عبد الرحمن الناصر؛ لأنه كان أعظم ملوك إسبانيا على مرِّ العصور.
فلم يستطيعوا أن يُخفوا إعجابهم بهذا الرجل الذي رفعهم في العالمين، الذي كانت الأندلس في عهده- وبلا جدال- أقوى دولة في العالم.
عبد الرحمن الناصر.. الإنسان:
مَنْ يقرأ أو يسمع مثل ما سبق يجول في خاطره أن مثل هذا الرجل لم يكن يعرف إلاَّ طريقًا واحدًا، هو طريق العظمة والجدية التامَّة، طريق العزَّة وعدم الخنوع.؟
وهذا وإن كان صحيحًا إلاَّ أن مَنْ ينظر إلى شخص عبد الرحمن الناصر-الذي ظلَّ يحكم البلاد من سنة (300هـ= 913م) إلى سنة (350هـ= 961م) نصف قرن كامل- لَيَرَى العَجَبَ العُجاب؛ فقد كان –رحمه الله- مع كل هذا السلطان وهذا الصولجان دائمَ الذِّكْر لربه سريع الرجوع إليه.
حدث ذات مرَّة قحط شديد في الأندلس، فأرسل الناصر رسولًا من عنده يدعو القاضي منذر بن سعيد –رحمه الله- بإمامة الناس في صلاة الاستسقاء، فقال منذر للرسول: ليت شعري ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟
فقال له: ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا؛ إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخس الثياب، مفترش التراب، وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه، وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تُعَذِّب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟!
لن يفوتك شيء مني. قال الحاكي: فتهلَّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام؛ احمل المطر معك؛ فقد أذن الله تعالى بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض، فقد رحم جبار السماء. وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلاَّ عن السقيا»[18].
وكان يقول الشعر-أيضًا- ومن شعره في أمر بنائه مدينة الزهراء: [الكامل]
هِمَمُ المُلُوكِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَهَا
مِنْ بَعْدِهِمْ فَبِأَلْسُنِ الْبُنْيَانِ
إِنَّ الْبِنَاءَ إِذَا تَعَاظَمَ شَأْنُهُ
أَضْحَى يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ الشَّانِ[19]
قالوا عن عبد الرحمن الناصر..
قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره.
وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، قال ابن عبد ربه: قد نَظَمتُ أُرجوزة ذكرتُ فيها غزواته. قال: وافتتح سبعين حصنًا من أعظم الحصون، ومدحه الشعراء[20].
وقال عنه الصفدي: ولم يكن بعد عبد الرحمن الداخل أجزل منه- أي الناصر- في الحروب، وصحة الرأي، والإقدام على المخاطرة والهول، حتى نال البُغيَة... فرتب الجيوش ترتيبًا لم يُعهَدْ مثلُه قبله.
وأكرم أهل العلم، واجتهد في تخيُّر القضاة، وكان مُبَخَّلًا لا يُعطي ولا يُنفق إلاَّ فيما رآه سدادًا[21].
وها هو ذا يُتَوَفَّي –رحمه الله- في رمضان سنة (350هـ= 961م) عن اثنين وسبعين عامًا.
وقد وجدوا في خزانته ورقة كان قد كتبها بخط يده، عدَّ فيها الأيام التي صَفَتْ له دون كدر؛ فقال: «في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا صفا لي ذلك اليوم». فعدُّوها فوجدوها أربعة عشر يومًا فقط[22].
[1] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38، وتاريخ ابن خلدون، 4/144.
[2] المقري: نفح الطيب، 1/566.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/436.
[4] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص198.
[5] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232.
[6] المقري: نفح الطيب، 1/540.
[7] حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص378.
[8] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص314.
[9] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/231، وابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص38.
[10] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص200.
[11] السابق نفسه.
[12] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/685.
[13] طارق السويدان: الأندلس التاريخ المصور، ص201.
[14] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص116.
[15] ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ص58، 59.
[16] المقري: نفح الطيب، 1/366.
[17] المصدر السابق، 1/541.
[18] انظر: ابن خاقان: مطمح الأنفس، ص103، والذهبي: تاريخ الإسلام، 25/444، والمقري: نفح الطيب، 1/573.
[19] المقري: نفح الطيب، 1/575.
[20] الذهبي: تاريخ الإسلام، 25/237.
[21] الصفدي: الوافي بالوفيات، 18/137.
[22] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/232، والمقري: نفح الطيب، 1/379.
الكاتب: د. راغب السرجاني
المصدر: موقع قصة الإسلام